الخميس

قصة نبي الهدى محمد علية الصلاة والسلام

الجزء الأول


محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب- واسمه شيبة- بن هاشم- واسمه عمرو- بن عبد مناة- واسمه المغيرة- بن قصى- واسمه زيد- بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر- وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة- بن مالك بن النضر- واسمه قيس- بن كنانة بن خزيمة بن مدركة- واسمه عامر- بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. وهذا الجزء هو الذى اتفق على صحته أهل السير والأنساب

قصى

هو قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فهر -وهو الملقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة- تزوج حبى بنت حليل بن حبشة من خزاعة والى مكة، فأنجب منها أربعة نفر، وامرأتين: عبد مناف وعبد الدار وعبد العزى وعبد قصى وتخمر وبرة. وقد جمع قصى قريشًا وكنانة، ورأى أنهم أولى بولاية مكة والبيت العتيق من خزاعة، لأنهم أبناء إسماعيل، فقاتل بهم خزاعة حتى أجلاها عن مكة، ثم إنه قطعها رباعًا بين قومه، وأنزلهم منازلهم، وأسس دار الندوة -برلمان قريش ومقر تشاورها وحكمها-. وكان لقصى من مظاهر الرياسة والتشريف: رياسة دار الندوة، واللواء، فلا تعقد راية الحرب إلا بيديه، والحجابة فلا يفتح باب الكعبة ولا يلى خدمتها إلا هو، وسقاية الحاج، ورفادته -أى إطعامه-، ثم قسمت هذه المناصب بين ولديه عبد مناف وعبدالدار بعد وفاته.

الجزء الثانى

ما فوق عدنان، هو ابن آد بن هميسع بن سلامان بن عوص بن جوز بن قموال بن أبى عوام بن ناشد بن حزا بن بلداس بن يدلاف بن طابخ بن جاحم بن ناحش بن ماخى بن عيض بن عنو بن عبيد بن الدعا بن حمدان بن سنبرين بن يثربى بن يحزن بن يلحن بن أرعوى بن عيض بن ديشان بن عيصر بن أفتاد بن إيهام بن مقصر بن ناحث بن زارح بن سمى بن مزى بن عوضة بن عرام بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم -عليهما السلام-.

الجزء الثالث

ما فوق إبراهيم عليه السلام، وهو ابن تارح- واسمه آزر- بن ناحور بن ساروع- أو ساروغ- بن راعو بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح- عليه السلام- بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ- يقال هو النبى إدريس -عليه السلام - بن يرد بن مهلائيل بن قينان بن آنوشة بن شيث بن آدم -عليهما السلام-.

هاشم

كان هاشم بن عبد مناف رجلاً موسرًا، وكانت له السقاية والرفادة -أى الإطعام-، ويزعمون أنه كان يقوم فى قريش إذا أتى الحجيج فيقول: يا معشر قريش، إنكم جيران الله، وأهل بيته، وإنه يأتيكم فى هذا الموسم زوار الله، وحجاج بيته، وهم ضيف الله، وأحق الضيف بالكرامة ضيفه، فاجمعوا لهم ما تصنعون لهم به طعامًا أيامهم هذه التى لا بد لهم من الإقامة بها، فإنه والله لو كان مالى يسع لذلك ما كلفتكموه. ويبدو أنه شمر عن ساعديه وأخذ يهشم الخبز ليصنع الثريد بنفسه، فسمى هاشمًا لكونه أول من فعل ذلك وكان اسمه من قبل عمرو. ولم تكن هذه هى سابقة هاشم الوحيدة التى سنها لقومه، إذ يروى أيضًا أنه كان أول من سن لهم رحلتى الشتاء والصيف إلى الشام واليمن. وقد مر الرجل بالمدينة فى طريقه إلى الشام للتجارة فى إحدى السنوات، فتزوج بها من سلمى بنت عمرو أحد بنى عدى بن النجار وأقام عندها، ثم تركها وارتحل فمات بغزة من أرض فلسطين. أما العروس الأرمل، فقد نبتت فى رحمها بذرة هاشم التى أدركتها الأقدار قبل رحيله فغدت طفلاً يتيمًا هو شيبة، الذى ما إن أصبح غلامًا حتى علم بأمره أهله بمكة، فذهب إليه عمه المطلب ورده لقريش التى أطلقت عليه عبدالمطلب. وكان لهاشم أربعة بنين وهم: أسد، وأبو صيفى، ونضلة، وعبدالمطلب، وخمس بنات هن: الشفاء، وخالدة، وضعيفة، ورقدة، وجنة.

أبو طالب

بقدر ماسمت أخلاق العرب الأصيلة بأبى طالب فرفعته فى الدنيا، بقدر ما حبست عنه الخير فوضعته فى الآخرة!! فأبو طالب بن عبد المطلب الذى أمه وأم عبد الله واحدة، وهى فاطمة بنت عمرو المخزومية، كانت أخلاقه النبيلة تدفعه لكفالة ابن أخيه محمد -صلى الله عليه وسلم- رغم ضيق ذات يده، ثم تلزمه أن ينصح له ويؤازره، منذ هذه اللحظة وحتى وفاته، فنراه يحتال لخروجه فى تجارة خديجة، ثم نراه يصاحبه فى طلب زواجها، ومع ذلك لا ننسى صموده العجيب فى وجه قريش بأسرها حين ساومته مرة بعد مرة، لكف محمد -صلى الله عليه وسلم- عن رسالته، وصبره على ضغطها الأليم، وسعيه فى تجمع بنى هاشم وبنى عبد المطلب، حين توجس من قريش الغيلة والغدر بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، وأخيرًا خروجه معه ثلاث سنين، محاصرًا فى أحد شعاب مكة، و قد وهنت عظامه، وكبر سنه، لكن أخلاقه تلك، التى دفعته فى كل طريق حميد، أبت عليه عند وفاته، أن يترك ملة عبد المطلب، فمات نصير الإسلام، وحاميه فى نشأته، مشركًا على دين قريش.

عبدالله


هو عبدالله بن عبدالمطلب والد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأحب أبناء عبد المطلب إلى قلبه، وأحسنهم وأعفهم، ويلقب بالذبيح، وذلك لأن عبد المطلب كان قد نذر إن أوتى عشرة من الأبناء ليذبحن أحدهم، فلما أوتى العشرة أخبرهم بنذره فأطاعوه، ثم اقترع بينهم فكانت القرعة على عبدالله، لكن قريشًا ولا سيما بنى مخزوم -أخوال عبدالله-، وأخاه أباطالب أبوا عليه أن يذبح ابنه، واستقر رأيهم على أن يضربوا الأقداح بينه وبين عشرة من الإبل ليفتدوه، فما وقعت الأقداح على الإبل إلا فى عاشر مرة، فافتدى عبدالله حينها بمائة من الإبل، تذبح فلا يرد عنها إنسان ولا سبع. وأراد عبدالمطلب أن تكتمل فرحته بابنه الشاب الأثير، فاختار له آمنة بنت وهب بن عبد مناف لتكون له زوجة، وهى يومئذ أفضل امرأة فى قريش نسبًا وموضعًا، ولم يلبث عبدالله بمكة بعد أن بنى بها إلا قليلاً حتى ارتحل إلى المدينة؛ يشترى تمرًا، فمات ودفن بها وله إذ ذاك خمس وعشرون سنة، وكان ذبيح مكة الذى افتدى بمائة من الإبل قد أدى رسالته -حين ألقى بذرته تنمو فى رحم آمنة-. أما جنين عبد الله وآمنة فما كان ينتظره من متاع عبدالله أبيه إلا خمسة أجمال، وقطعة غنم، وجارية حبشية صارت حاضنته -صلى الله عليه وسلم- واسمها بركة وكنيتها أم أيمن.

آمنة

هى آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب -أم رسول الله-، وأفضل امرأة فى قريش يومئذ نسبًا وموضعًا، أما أبوها فسيد بنى زهرة نسبًا وشرفًا. تزوجت آمنة من عبدالله بن عبدالمطلب، فلما حملت به رأت أنه خرج منها نور أضاءت به قصور الشام، ثم تأيمت وجنينها بعد لم ير النور، ووضعته فكان خير من وضعت امرأة إلى قيام الساعة، وقد توفيت بالأبواء بين مكة والمدينة وهى فى طريق عودتها إلى مكة بعد أن زارت بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وهو ابن ست سنين أخواله من بنى عدى بن النجار. وبنو عدى بن النجار أخوال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأن منهم سلمى بنت عمرو النجارية زوجة هاشم وأم عبدالمطلب جد رسول الله- صلى الله عليه وسلم.

مولده و رضاعته عليه الصلاة والسلام

فى ديار حليمة

خرجت حليمة بنت أبى ذؤيب السعدية مع نسوة من بنى سعد بن بكر يلتمسن الرضعاء، وما إن وصلت مكة حتى التقطت كل واحدة منهن رضيعًا ألقمته ثديها، ولم يبق بمكة إلا رضيع واحد ومرضعة واحدة، أما الرضيع فكان محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، ترك ليتمه، فكانت كل واحدة منهن تقول: يتيم! وما عسى أن تصنع أمه وجده؟!، وأما المرضعة فكانت حليمة السعدية، ويبدو مما نقل إلينا من الروايات أنها كانت على حال بالغة من الضعف والوهن، فأبت أمهات قريش أن يدعن لها بنيهن، ولم ترض حليمة أن تعود لديارها خالية الوفاض، فعادت ليتيم مكة، بعد أن زهدته، وشجعها على ذلك زوجها أبو كبشة الحارث بن عبدالعزى قائلاً: لا عليك أن تفعلى، عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة. وما إن التقم فم محمد -صلى الله عليه وسلم- ثديها حتى امتلأ من بعد جفاف باللبن، فشرب، وشرب أخوه ونام، وما كان قبلها يصنع ذلك، وإذا دابتها العجفاء تسبق دواب صويحباتها، وإذا ضرع غنمها حافل باللبن، فباتت حليمة وزوجها وابنها فى خير ليلة، وأصبح زوجها يقول لها: تعلمى والله يا حليمة؟! لقد أخذت نسمة مباركة. وترددت أنفاس محمد -صلى الله عليه وسلم- الزكية فى دار حليمة، فامتدت إليها البركة، فسمنت غنمها، وزاد لبنها وبارك الله لها فى كل ما عندها، حتى كان بنو سعد يقولون لرعيانهم: ويلكم! اسرحوا حيث يسرح راعى بنت أبى ذؤيب. وأتم محمد -صلى الله عليه وسلم- سنتين، ففطمته حليمة، وذهبت به إلى آمنة تلح عليها -لما رأت معه من الخير- أن تتركه لها مزيدًا من الوقت، ولم تزل بها حتى ردته إليها، فمكث فى بنى سعد، حتى سن الرابعة أو الخامسة. وفى هذه السن وقعت له حادثة شق الصدر، فخشيت عليه حليمة أن يكون أصابه سوء، فردته إلى أمه بمكة










حادثة شق الصدر










بينا محمد -صلى الله عليه وسلم- يلعب مع الغلمان، فى ديار حليمة السعدية، وقد ناهز سنه يومئذ الرابعة أو الخامسة، حدثت له حادثة عجيبة، إذ أتاه الملك، فأخذه فصرعه، ثم شق صدره، واستخرج قلبه، وأخرج منه علقة، ثم غسله فى طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعاده إلى مكانه، وغدا الغلمان إلى أمه حليمة ينبهونها قائلين إن محمدًا قد قتل، فأسرعت إليه حليمة، واستقبلته وهو منتقع اللون، وخشيت حليمة وزوجها أن يكون أصابه سوء فبادرا برده إلى أمه آمنة بمكة.










حلف الفضول














أتى رجل من زبيد إلى مكة بتجارة له، وأعجبت التجارة أحد كبراء مكة يومئذ -العاص بن وائل- فاشتراها منه، لكن العاص وقد أسرعت يداه بالتقاط تجارة الزبيدى تباطأ حين طلب منه أن ينقد الزبيدى حقه، واستعدى الزبيدى بطون قريش عليه فما أبه به أحد، فمضى ينعى حظه، ولم يرض الزبير بن عبدالمطلب بهذا الظلم، فجمع بنى هاشم وبنى المطلب، وأسد بن عبد العزى، وزهرة بن كلاب، وتيم بن مرة على طعام صنعه لهم فى دار عبدالله بن جدعان، ثم دعاهم على أن يتعاهدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها أو غيرهم إلا نصروه، فوافقوه على ذلك، ثم قاموا إلى المماطل العاص بن وائل فاستخلصوا منه حق الزبيدى وردوه إليه، وقد شهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا الحلف مع عمه أبى طالب.










طفولته وصباه عليه الصلاة والسلام














بحيرا










حين بلغ محمد -صلى الله عليه وسلم- اثنتى عشرة سنة ارتحل مع عمه أبى طالب إلى الشام فى تجارة له، ونزل الركب ببصرى فالتقيهم راهب صالح يدعى بحيرا -واسمه جرجيس-. وعلم الراهب من أمر محمد -صلى الله عليه وسلم- ما جهله قومه وأهله، فسأل أبا طالب عنه فقال: ابنى. فأجابه: ما ينبغى أن يكون أبوه حيًا!. وتعجب أبو طالب من علم بحيرا! فقال له: فإنه ابن أخى مات أبوه وأمه حبلى به. فأجابه بحيرا مقتضبـًا وناصحـًا: صدقت، ارجع به إلى بلدك، واحذر عليه يهود. فأسرع أبو طالب برده مع بعض غلمانه إلى مكة، ويبدو أن بحيرا قد عرفه من خاتم النبوة الذى بظهره -كما جاء فى بعض الروايات-، ومما كان يقرؤه بكتبه من قرب بعثة نبى بعد عيسى -عليه السلام-، ومن أمارات ذلك النبى وعلاماته.










حرب الفجار














تعود النعمان بن المنذر أن يبعث كل عام قافلة من الحيرة إلى عكاظ تحمل المسك وتجىء


بدلاً منه بالجلود والحبال وأنسجة اليمن المزركشة، ولأن قبائل الأعراب المتناثرة فى صحراء الجزيرة لا تجعل الطريق مأمونة، فقد كان على المنذر أن يعين من يحرس قافلته، وعرض رجلان على المنذر أن يقوما له بهذه المهمة هما: البرَّاض بن قيس الكنانى ومعه كنانة وعروة الرحال ابن عتبة الهوازنى ومعه هوازن، واختار المنذر عروة، فأسرها البراض فى نفسه، وما زال حقده يتأجج فى صدره، حتى اغتال عروة وأخذ قافلته، ولم يكتف البراض بما فعل، بل أسرع إلى بشر بن أبى خازم يخبره أن هوازن ستأخذ بثأرها من قريش، وهو ما حدث بالفعل، وقد سميت هذه الحرب بالفجار لأنها كانت فى الأشهر الحرم، التى أجمعت العرب على ترك القتال بها، وقد حضرها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يجهز لعمومته نبل هوازن الذى كانت تقذف به قريشًا، وسنه يومئذ خمس عشرة سنة، وقيل بل عشرون، ولعل الخلاف قد حدث لامتداد الحرب أربعة أعوام متتالية










من الشباب الى البعثة






رعى الغنم






مثله فى ذلك مثل النبيين من قبله، كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يرعى الغنم، يمضى نهاره مستظلاً بسماء ربه، ويقضى يومه حر الخطا يتجول بين المراعى، حر البصر يقلبه فى أرجاء الكون الواسع حوله، حر الفؤاد يتنقل به بين فكرة وفكرة! ثم هو مع ذلك لا يهيم بعيدًا فى الخيال، بل يحفظ يقظته لتحفظ له غنمه الشاردة عن أنياب الذئاب، تعلم ذلك حين رعى الغنم قديمًا فى بنى سعد، وثابر عليه وهو يرعاها الآن - على قراريط- لأهل مكة.






التجارة لخديجة






بينا أبو طالب يمر فى أسواق مكة إذ علم أن خديجة تستأجر الرجال لتبعثهم فى تجارتها إلى الشام مقابل بكرين -أى جملين- فاستأذن أبو طالب محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ثم عدا على خديجة فعرض عليها استئجار محمد على أربعة بكار، فأسرعت بالموافقة، وقيل بل هى التى أرسلت إليه تستأجره، على أن تعطيه أفضل ما كانت تعطى غيره من التجار، لما سمعت من كرم خلقه، وصدق حديثه، فأجابها وعمره حينئذ خمسة وعشرون عامـًا. وارتحل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى الشام بتجارة خديجة، وفى صحبته غلامها ميسرة، فباع واشترى، ورأى ميسرة من عظيم أمانته وصدق حديثه، وفضل خلقه، ما جعله يسارع إلى خديجة عند عودته ليقص عليها ما رآه من هذا الرجل العظيم، وقد لمست هذه السيدة الكريمة فضل محمد -صلى الله عليه وسلم- حين وجدت تجارتها بخلقه وعذوبته قد تضاعفت -أى بلغت الضعف-، مما قوَّى فى صدرها رغبتها فى الزواج منه.






زواجه -صلى الله عليه وسلم- من خديجة






إن سما للمرأة نسبها، وعلا شرفها، واكتست بالعقل، ثم هى مع ذلك قد بسط لها الثراء، فما مطمع نفسها سوى فى زوج كريم شريف تعيش معه، وتستند إليه، زاد ثراء هذا الزوج أم لم يزد! فما الحاجة لثرائه والمال موجود؟! وما الخوف على المال والخلق والشرف مانع وحجاب؟! وإن كانت هذه المرأة خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصى بن كلاب -أفضل نساء قومها نسبًا وثروة وعقلاً- فمن يكون هذا الزوج الكريم سوى محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ أليست هى قد خبرته؟ ألم تشركه فى تجارتها؟ فما وجدت إلا خيرًا وفضلاً، ألا تعلم نسبه وشرفه فى قومه؟ فلم التباطؤ والتكاسل، وهى المرأة الحازمة ذات العزم والجلد؟. أسرت خديجة -رضى الله عنها- إلى صديقتها نفيسة بنت منية برغبتها تلك، فهى تعلم من كرم خلقه -صلى الله عليه وسلم- أنه لن يبذل ماء وجهه فى طلب يدها، مزاحمًا أغنياء قريش وسادتها، على فقر يديه وقلة ماله، دفعت خديجة صاحبتها إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- تفاتحه أن يتزوج خديجة، فأنست منه رغبة فى زواجها، وخشية من رفض طلبه لضيق ذات يده، فطمأنته بنت منية قائلة: علىّ ذلك. وعادت بعدها تزف إليه موافقة خديجة على طلبه، وتحديدها الساعة التى يأتى فيها بأهله ليطلبها من أهلها، وما كادت الساعات تمر حتى كان أبو طالب قد صحب محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، وطلب زواج خديجة -رضى الله عنها- لابن أخيه من عمها عمر بن أسد، فتم الزواج المبارك الميمون الذى نعمت خديجة فى ظلاله بزواج سيد الخلق كلهم -صلى الله عليه وسلم- ونعم محمد فيه من خديجة -التى أرسل الله إليها تحيته مع الروح الأمين- بحنان دون ضعف، وحزم دون عنف، ومساندة فى كل وقت، ولم يتزوج النبى -صلى الله عليه وسلم- عليها غيرها حتى ماتت، وكل أولاده منها سوى إبراهيم، ولدت له أولاً القاسم، وبه يكنى، ثم زينب، ورقية، وأم كلثوم، وفاطمة، وعبدالله الملقب بالطيب والطاهر، وقد تزوجها وهو فى الخامسة والعشرين من عمره وقد كانت هى فى الأربعين من عمرها.






حفظ الله له -صلى الله عليه وسلم-






امتاز محمد -صلى الله عليه وسلم- بعقل راجح، وحلم وافر، ومتع بصائب الفكر، وسديد النظر، وعقل المرء لا شك يوجهه إلى الخير والحق، خاصة إن صادف عزيمة وجدًا كعزيمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وجده، لكن يبقى المرء مع ذلك كله بحاجة إلى هداية تأتيه من السماء، فإن عدمها كان للعرف -صلح أو فسد- على سلوكه تأثير كبير. هفت نفسه -صلى الله عليه وسلم- أن يشارك شباب مكة سمرهم، فأوصى غلامـًا يرعى معه الغنم بأعلى مكة على غنمه، حتى إذا همّ بدخول مكة، ضرب الله على أذنيه فنام، حتى أيقظته الشمس بحرها، ورفع إزاره يتقى به الحجارة حين شارك أهل مكة بنيانهم الكعبة، فخر على الأرض وأفاق قائلاً إزارى إزارى، حتى شده عليه، وكأن الله يأبى أن يكون لنبيه الكريم ماضٍ يشينه ولو قبل البعثة وحمل الرسالة.






خلقه قبل البعثة






قد يتزين المرء أمام الناس دهرًا، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك دومًا دون هنة أو هفوة، وقد يتصنع المرء ويتكلف خارج بيته، لكنه لا يستطيع أن يحافظ على تصنعه ذلك وتكلفه داخل بيته وبعد أن يوصد بابه، أما أن يوصف محمد -صلى الله عليه وسلم- بدوام الصدق والأمانة من أعدائه قبل أصدقائه، وأما أن تقول عنه زوجه خديجة -رضى الله عنها-: إنه يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويقرى الضيف، ويعين على نوائب الحق. فذلك ما يؤكد أصالة خلقه، وزكاة معدنه. عاش محمد مع قريش، وخالط رجالاتها، فما رؤى يومًا سابًا، أو مجادلاً، أو صخابًا فى الأسواق، عافت نفسه الخمر، وعزفت نفسه عما ذبح على النصب، ونأى بعيدًا عن الأوثان واحتفالاتها الباطلة، كان أفضل قومه مروءة، وأحسنهم خلقًا، وأعزهم جوارًا، وأعظمهم حلمًا، وأصدقهم حديثًا، وألينهم عريكة، وأعفهم نفسًا، وأكرمهم خيرًا، وأبرهم عملاً، وأوفاهم عهدًا، وآمنهم أمانة، حتى سمّاه قومه لذلك كله الصادق الأمين- صلى الله عليه وسلم.






بناء الكعبة










الكعبة، بيت الله الحرام، الذى يعظمه المسلمون ويقدسونه، وهم فى الوقت ذاته، يعلمون أنه حجارة صماء، لا تضر ولا تنفع، ذلك البيت الذى حكى أن آدم -عليه السلام- كان أول من بناه، تعاونه فى ذلك زوجه حواء، وثبت بيقين تشييد إبراهيم له بمعاونة ابنه إسماعيل -عليهما السلام-، بقى شاهدًا على أمم متتالية، و أحقاب شتى، غيرت من معالم حرمه بتشييد التماثيل، وطمست من نور حقه، بصرخات الوثنية وجنونها، حتى جاء الإسلام، فغسل عن الحرم أدران الجاهلية، وأحيا بقرآنه دينًا كاد أن يخبو. وبعد تشييد إبراهيم -عليه السلام- لهذا البيت العتيق، تسع أذرع فى السماء، و ثلاثين ذراعًا فى الأرض طولاً، واثنين وعشرين عرضًا، وكانت بغير سقف، أتت عليها صوارف الدهر حتى هدمتها، فأعادت قريش بناءها، و شارك محمد -صلى الله عليه وسلم- فى شرف ذلك، وقد احترق البيت بعد ذلك فى زمن يزيد بن معاوية، فبناه عبد الله بن الزبير، وزاد فيه أذرعًا ستًّا كانت قريش قد أخرجتها حين قصرت بها النفقة، وزاد فى ارتفاعه إلى السماء عشر أذرع، و جعل لها بابين، لكنه بعد أن قتل نقضه الحجاج وأعاده إلى بنائه الأول. و قد بقيت الكعبة المشرفة رمزًا لهذا الدين، ومثابة لأتباعه يلتفون حولها من كل جنس ولون، يذكرون إلههم الواحد الأحد، ويطوفون بها الأشواط ذات العدد!.






الدعوة سراً


فى غار حراء






على مسافة تقارب الميلين من مكة كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يجد فى سكون غار حراء فسحة للتفكير والتأمل، ولا يحظى بها فى مكة الصاخبة، فكان يقيم فيه شهر رمضان، يطالع كتاب الله المنشور فى الكون باتساعه، ويقضى وقته فى عبادة إله هذا الكون، الذى رأى قدرته، وتاقت نفسه لمعرفة صفاته وأحكامه، حتى صفت نفسه، وزكا فؤاده، وأصبح مستعدًا لاتصاله بعالم الغيوب، فكانت الرؤيا -إحدى أجزاء النبوة- تأتيه فيجدها تجىء كفلق الصبح، واستمر على ذلك ما يناهز الشهور الستة، حتى كان نزول جبريل عليه بالغار فى رمضان، بعد أن تجاوز النبى -صلى الله عليه وسلم- الأربعين من عمره.






نزول جبريل عليه السلام






فى إحدى الليالى الوترية بالعشر الأواخر من رمضان، وقد أتم النبى -صلى الله عليه وسلم- الأربعين من عمره، كانت الدنيا حيرى فى ظلمات الجاهلية المشتاقة إلى نور الله، قد استعدت لاستقبال رسول رب العالمين، الأمين جبريل -عليه السلام-، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- المتحنث فى غاره بغية الحق، فقد أصابه الفزع لنزول جبريل، وارتعد فؤاده لمجيئه، وضاعف من اضطرابه -صلى الله عليه وسلم- سؤال جبريل له أن يقرأ، وهو الرجل الأمى، أما جبريل -عليه السلام- فإنه بعد أن أعاد محمد قوله: ما أنا بقارئ، للمرة الثالثة فقد قام بإبلاغه أولى كلمات رب العالمين المرسلة إلى خاتم المرسلين -عليهم الصلاة والسلام-: (اقرأ باسم ربك الذى خلق).






اضطرابه -صلى الله عليه وسلم-






مضى جبريل إلى سمائه وبقى محمد -صلى الله عليه وسلم- فى غاره مضطربًا فزعًا، ما هذا الذى حدث له؟، من كلمه؟، وما هذه الكلمات التى نقشت فى صدره؟، لقد عهد الرؤيا الصادقة وتعود عليها، لكن ماذا يحدث له الآن؟ أتراه قد جن؟، إن نفسه ليس عليها شىء أبغض من شاعر أو مجنون، فإن كان قد جن فالموت خير له!! هكذا قرر فى ساعة فزعه بل وأسرع ينفذ خطته بأن يلقى نفسه من شاهق، لكنه ما إن توسط الجبل حتى سمع صوتًا من السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله، وأنا جبريل، فرفع رأسه إلى السماء فإذا جبريل فى صورة رجل صاف قدميه فى أفق السماء يقول: يا محمد، أنت رسول الله وأنا جبريل، وتسمر النبى -صلى الله عليه وسلم- فى مكانه، فما يتقدم أو يتأخر، وقد شغله ذلك عما أراد، وبعثت خديجة -رضى الله عنها- رسلها يبحثون عنه فى مكة فما وجدوه، وعادوا إليها، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فما إن ذهب عنه جبريل حتى أسرع هابطًا إلى خديجة زوجته العاقلة الحنون، يجلس إلى فخذها، ويلتصق بها، يقص عليها غريب خبره وعجيب أمره، فتطمئنه خديجة بقولها: أبشر يابن العم واثبت. فوالذى نفس خديجة بيده إنى لأرجو أن تكون نبىّ هذه الأمة. ثم انطلقت خديجة إلى ابن عمها ورقة بن نوفل لتقص عليه الخبر.


ورقة






بينا قريش تصخب فى أسواقها، وتصفق طائفة حول الكعبة فى عيد لهم إذ شاء الله لأربعة نفر أن ينأوا عن ذلك كله، أخذ الأربعة يتناجون فيما بينهم، ويسرون لبعضهم البعض قائلين: تعلمون والله ما قومكم على شىء! لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم! ما حجر نطوف به لايسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟، يا قوم، التمسوا لأنفسكم دينًا فإنكم والله ما أنتم على شىء. كان هؤلاء الأربعة هم: زيد بن عمرو بن النفيل الذى قال عنه النبى صلى الله عليه وسلم-: إنه يبعث أمة وحده. وقد رفض اليهودية والنصرانية لما شابها، وكان يعيب آلهة قريش، حتى قتل وهو عائد من الشام لمكة، حيث سمع بشارة من أحد رهبانها بأوان خروج نبى هذه الأمة من أرض مكة، وأما الثانى فكان عثمان بن الحويرث وقد قدم على قيصر فتنصر وحسنت منزلته عنده، وأما الثالث فكان عبيد الله بن جحش الذى ظل ملتبسًا حتى أسلم، ثم هاجر إلى الحبشة ثم ارتد إلى النصرانية، ففارقته زوجته أم حبيبة بنت أبى سفيان بن حرب، وتزوجت النبى -صلى الله عليه وسلم- من بعده، وأما الرابع فكان ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصى بن كلاب وقد استحكم فى النصرانية، وتعلم الكتب بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وأصبح حين البعثة شيخًا كبيرًا قد عمى، وهو ابن عم السيدة خديجة -رضى الله عنها-، وقد آمن بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وثبته حين أفزعه الوحى، وتمنى أن ينصر النبى إذا عاداه قومه أو أخرجوه، لكن القدر لم يمهله، فتوفى بمكة رحمه الله.














فترة الوحى










إن فؤاد محمد -صلى الله عليه وسلم- القلق، ونفسه الفزعة قد أذهب ما بهما حديث خديجة المطمئن، وكلمات ورقة الثابتة، لكن محمدًا وقد ذهب قلقه، وانتهى فزعه، تلفت مشتاقًا ليرى وحى ربه فلم يجده وانتظر أيامًا، فتباطأ الوحى عنه. ومحمد -صلى الله عليه وسلم- الذى روى عنه من أيام إسراعه إلى خديجة مضطربًا يروى عنه الآن شدة حزنه وألمه لفراق الوحى، حزنًا جعله يعدو مرارًا ليتردى من رؤوس شواهق الجبال، لكنه كلما همّ بشىء من ذلك تبدى له الأمين جبريل -عليه السلام- قائلاً: يا محمد إنك رسول الله حقًا. فيسكن بذلك جأشه وتقر نفسه، فإن طال عليه الأمد عاد لما يصنع، فعاد الوحى لما يصنع به!! وظل هكذا أيامًا حتى آب إليه






أقسام الوحى






لم يكن وحى الله لمحمد -صلى الله عليه وسلم-


على صورة واحدة إنما على أوجه سبعة يذكرها الإمام ابن القيم فيقول:






إحداها: الرؤيا الصادقة، وكانت مبدأ وحيه -صلى الله عليه وسلم-.






الثانية: ما كان يلقيه الملك فى رُوْعِهِ -قَلْبِهِ- من غير أن يراه.






الثالثة: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يتمثل له الملك رجلاً فيخاطبه حتى يعى عنه ما يقول له.






الرابعة: أنه كان يأتيه فى مثل صلصلة الجرس، وكان أشد عليه فيلتبس به الملك، حتى إن جبينه


ليتفصد عرقًا فى اليوم شديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض إذا كان راكبها.






الخامسة: أنه يرى الملك فى صورته التى خلق عليها، فيوحى إليه ما شاء الله أن يوحيه.






السادسة: ما أوحاه الله إليه وهو فوق السماوات ليلة المعراج.






السابعة: كلام الله له منه إليه، بلا واسطة ملك، كما كلم موسى بن عمران، وثبوتها لنبينا -صلى الله عليه وسلم- هو فى حديث الإسراء. وقد زاد بعضهم مرتبة ثامنة، وهى تكليم الله له كفاحًا من غير حجاب وهى مسألة خلاف بين السلف والخلف.






الأمر بالدعوة






إن كانت مقدمة الرسالة دعوة النبى الكريم أن يقرأ، يقرأ هذه الرسالة، ويقرأ باسم ربه، لأنه الذى خلق، وأكرم، وعلّم، فإن الدرس الأول بهذه الرسالة كان درسًا جامعًا حقًا، فعلى بساطة الكلمات وسرعة تتابعها، إلا أنها حملت الكثير من المعانى، ومن بين هذه المعانى كان الأمر الأول للمدثر-صلى الله عليه وسلم- أن يقوم لينذر، وغاية الإنذار هنا: تبليغ دعوته كل إنسان يتنفس فوق الأرض، آمن هذا الإنسان أم لم يؤمن، واتبع فاهتدى أم أعرض فتردى! أما باقى المعانى المتتالية فتكبير لله حتى لا يكون هناك كبرياء إلا له وحده، وتطهير للظاهر والباطن من النجس والشوائب والعلل، واستصغار للجهد والعمل مهما بلغ أو وصل، ثم صبر بعد ذلك فى الله -عز وجل-، على ما يلقاه من جهد أو عنت






الرعيل الأول






خلافًا للمثل العربى القائل: زامر الحى لا يطرب، والذى يستخدمه البعض لتبرير إعراض المقربين منه عن دعوته، فإن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- قد بدأ دعوته بألصق الناس به، وأدناهم منه: زوجه خديجة، صاحبه أبى بكر، مولاه زيد، ربيبه على، فما تخلف عنه منهم أحد وقد كان محمد -صلى الله عليه وسلم- يصطفى من الناس من يعرف عنهم الخير، ويغلب على ظنه قبولهم دعوته، وكتمانهم أمره، وكان هؤلاء السابقون الأولون إلى الإسلام هم نواة الدعوة الصلبة، ووتدها الأوسط، على أكتافهم قامت، وبسواعدهم شيدت، وكانوا يمثلون كل عشائر قريش فمن بنى هاشم كان جعفر بن أبى طالب، ومن بنى أمية كان عثمان بن عفان، ومن بنى مخزوم كان أبو سلمة بن عبدالأسد، والأرقم بن أبى الأرقم، ومن بنى تيم كان طلحة بن عبيدالله، ومن بنى عدى كان سعيد بن زيد وزوجه فاطمة بنت الخطاب، ومن بنى زهرة كان سعد بن أبى وقاص وعبدالرحمن بن عوف وعبدالله بن مسعود، وخباب بن الأرت، ومن بنى سهم كان خنيس بن حذافة، ومن بنى جمح كان حاطب بن الحارث، ومن بنى أسد كان الزبير بن العوام، ومن بنى عامر كان أبو عبيدة بن الجراح، هذا إلى آخرين كانوا من قبائل أخرى كعثمان بن مظعون وأخويه قدامة، وعبدالله، وكان فى هؤلاء السابقين الرجال والنساء، فكانت خديجة، وأم الفضل بنت الحارث، وسمية زوج ياسر، وفاطمة بنت الخطاب، وحفصة بنت عمر، وفكيهة امرأة خطاب بن الحارث، ورملة زوجة عبدالله بن مظعون، وغيرهن، حتى شكلن ربع من آمن بالدعوة سرًا، وجمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السادة مع العبيد، كعامر بن فهيرة، والعربى مع الحبشى بلال بن رباح، والرومى صهيب، والشيوخ مع الشباب والأطفال، فكانت دعوة للناس كافة منذ أيامها الأولى، يجلسون إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فيستمعون منه إلى قرآن ربهم، فتتزكى نفوسهم، وتطهر قلوبهم، وتتراءى أمام أعينهم صور الجنة والنار، فتهون أمامهم كل مشقة، ويحقر لديهم كل متاع.














الصلاة






تتنزل الرسالات من السماء إلى الأرض لتصل الإنسان بخالقه، وأحد طرق هذه الصلة يبدأ حين يستمع المسلم كلام ربه -عز وجل-، أما الطرف الآخر فبدايته مع وقوفه فى الصلاة، وصلة كهذه الصلة حق لها أن تبدأ مع أول شعاع للدعوة يلج قلب المؤمن. ولذا فقد شرعت الصلاة فى أول الدعوة، تعلمها النبى -صلى الله عليه وسلم- من جبريل، وعلمها للمسلمين، فكانوا يتخفون بها بين الشعاب، وقد كانت الصلاة فى تلك الفترة ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشى، حتى فرضت الصلوات الخمس فى رحلة الإسراء والمعراج.














الدعوة جهراً






دعوة الأقربين






بادر الرسول -صلى الله عليه وسلم- بتنفيذ ما كلف به بإنذار عشيرته الأقربين، فدعا بنى هاشم فحضروا ومعهم نفر من بنى المطلب بن عبد مناف، وما كاد النبى يهم بالحديث إليهم حتى عاجله أبو لهب -تبت يداه- بهجوم عاصف، توعده فيه بالهلاك على أيدى قريش، ومن طاوعهم من العرب، ثم ختم حديثه المشئوم بقوله: فما رأيت أحدًا جاء على بنى أبيه بشرٍ مما جئت به. فسكت محمد -صلى الله عليه وسلم- ولم يتكلم، وماذا يقول لمن يقف أمام نور الحق، فيعمى قلبه حتى لا يرى شيئًا؟. وعاد النبى الكريم إلى المحاولة مرة أخرى، فجمعهم ثم خاطبهم فحمد الله وأثنى عليه، وأعلمهم أنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-إليهم خاصة، وإلى الناس عامة، وأنذرهم البعث والحساب، والجنة والنار، فأما أبو طالب فقد آزره، وأعلن إحاطته له ونصرته، وأما أبو لهب فقد حفز الناس أن يأخذوا على يديه قبل أن تأخذ العرب، فأجابه أبو طالب قائلاً: والله لنمنعنه ما بقينا.














على جبل الصفا






فوجئت قريش ذات نهار بمن يصعد جبل الصفا، ثم يلح صارخًا: يا صباحاه! واجتمعت بطون قريش إليه، فإذا الصارخ محمد -صلى الله عليه وسلم- وإذا هو ينذرهم من بين يدى عذاب شديد، لكن قريشًا التى تعلم صدق محمد قد عقدت ألسنتها الدهشة، فما أجابه إلا عدو الله عمه أبو لهب قائلاً: تبًا لك سائر اليوم! ألهذا جمعتنا؟، فنزلت سورة المسد. ويروى أنه تناول حجرًا ليرمى به النبى -صلى الله عليه وسلم-.










الصدع بالحق






نزل التوجيه الإلهى إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حاسمًا قاطعًا: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين)، فانطلق محمد يجوب مكة بأسرها، من أقطارها إلى أقطارها، ومن أسواقها إلى أنديتها، يوقظ النائمين فى ليل الوثنية، ويصرخ بغريقى بحار الجاهلية، ويهز أفئدة المتجمدين على دين آبائهم، ويعلن للجميع أنه لا إله إلا الله وأنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فانفجرت براكين الغضب بمكة، ومادت الأرض تحت أقدام سادتها وسدنة أصنامها، أيكون الأمر لله؟! ولله وحده؟‍! فما يبقى لنا بعد ذاك؟! أيساوى رب محمد بيننا وبين العبيد والإماء؟! ويسمى كنز المال ظلمًا؟! ولا يصبح لقريش فضل على من سواها؟! بل لا يصبح فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى؟! فما نعيم الدنيا بعد ذاك؟! بل وما البقاء فيها؟!!. أجمعت أفئدة الكفر بمكة على حرب هذا النبى الجديد، وإفناء أتباعه، وإطفاء نار ثورته قبل أن تطول كل شىء، فكانت المواجهة وكان الإيذاء.














تقوية شوكة المسلمين






كلما زاد الليل ظلمة، وكلما اشتدت السماء حلكة، كلما كان ذلك إيذانًا ببزوغ فجر جديد. أبو جهل يمر بالنبى -صلى الله عليه وسلم- عند الصفا فيؤذيه وينال منه، فلا يرد عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- شيئًا، ويأبى المعاند أن يترك محمدًا كريم الخلق يمضى فى طريقه، حتى يضربه بحجر فى رأسه الشريفة؛ فيسيل منها الدم نزفًا، ثم تكون هذه الحادثة الأليمة مقدمة لنهاية سعيدة هى إسلام حمزة بن عبد المطلب. حمية فى بادئ الأمر، ثم إيمان راسخ بعدها. ولا تكاد أيام ثلاثة من شهر ذى الحجة للعام السادس من نبوته -صلى الله عليه وسلم- تمر بعد إسلام حمزة -رضى الله عنه- حتى يلطم عمر بن الخطاب أخته فاطمة على وجهها لطمة شديدة؛ لإيمانها بمحمد -صلى الله عليه وسلم-، فيكون الدم السائل من وجهها سببًا لإيمان ابن الخطاب، وإعلانه شهادة الحق، وفى أيام ثلاثة تتبدل أحوال المسلمين، والدعوة المحبوسة فى دارالأرقم تجد طريقها إلى الكعبة، فى وضح النهار، وعلى مسمع قريش ومرآها، أقدام المسلمين تشق طرقات مكة، فى صفين طويلين، يقدم أحدهما أسد الله حمزة، ويسبق الآخر الفاروق عمر، الذى أبى الاختباء، وأقسم لنبيه -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: والذى بعثك بالحق لنخرجن!، فكان خروج المسلمين وكانت عزتهم. يصف صهيب تلك الحال قائلاً: لما أسلم عمر، ظهر الإسلام ودعى إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتى به!.










المواجهة والإيذاء






الحرب الدعائية






لم تزل الدعاية منذ فجر التاريخ سلاح كل قوة فى الأرض، خيرًا أرادت هذه القوة أم شرًا ابتغت، ومشركو مكة -على سذاجتهم البدوية- لم يغب عنهم ذاك السلاح، خصوصًا وقد علموا أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- سابقهم إليه، فأفواج الحجيج على أبواب مكة، وإن سمعوا للمسلمين ونبيهم؛ انتشرت الدعوة الوليدة فى أرجاء الجزيرة بأسرها. سارعت قريش للاجتماع بالوليد بن المغيرة، وعزموا أن يوحدوا كلمتهم أمام العرب، فلا يكون اختلاف قولهم سببًا لتكذيبهم، واقترحوا لذلك أمورًا عدة، فمرة يقولون كاهن، وأخرى يقولون شاعر، ثم مجنون أو ساحر، كل ذلك وابن المغيرة لا يعجبه الرأى، فسمت محمد وصفاته سيكذبان افتراءاتهم الباهتة، وأخذ الوليد يقلب فكره ساعة، لكن يبدو أن حيرته تلك لم توصله إلى شىء فقد وافقهم أخيًرا على هذا الوصف حين قال لهم: لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. إلا أن شيطانه قد هداه إلى تشبيه ما جاء به -صلى الله عليه وسلم- بالسحر لأنه يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته. وما كادت قريش تصل إلى هذه التسوية المقيتة حتى تفرقت على ذلك، ثم سارت فى كل طريق بمكة تدعو بدعوتها الباطلة، يتزعمهم أبو لهب -الذى كان يقتفى أثر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب. لكن كما تقول العرب: فعلى نفسها جنت براقش؛ لأن الحجيج قد تركوا مكة لا يتحدثون إلا عن هذا النبى الذى يكذبه قومه، فانتشر ذكره -صلى الله عليه وسلم- فى بلاد العرب كلها.










السخرية






إلقاء النكات، ورشق النظرات الساخرة، والكلمات المبتذلة، كانت أسلحة المشركين، التى استبدلوها بالنقاش الجاد والرأى السديد، لكن أى نقاش وأى رأى لمن قنع أن يسجد لحجارة صماء تصنعها يداه الضعيفتان؟. رأت قريش أن أيسر سبيل عليها هو سبيل السخرية والاستهزاء والضحك والفخر، واتهام النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- بالسحر تارة وبالجنون تارة أخرى، أما المسلمون الأوائل فقد كانت تهمتهم فى تقديرهم الباطل، أنهم ليسوا من الكبراء والعظماء بمقاييسهم الفاسدة.










إثارة الشبهات






كما فعل فرعون مع موسى -عليه السلام- حين واجهه، فحاد عن حق موسى القوى، وطاشت سهام كلامه هنا وهناك، فإن عرب مكة المشركين أرادوا أن يصرفوا آذان الناس وقلوبهم عن سماع الحق، فطاشت سهامهم يمنة ويسرة، تريد أن تصيب الرسول -صلى الله عليه وسلم- ومن معه باتهامه بالوضع أو بالسماع من غيره من البشر، أو حتى بأنه -صلى الله عليه وسلم- بشر يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق، أما الحق الذى معه، أما قرآن رب العالمين، فهم لا يقوون على مجابهته أو تحديه، حتى لو استفزهم محمد -صلى الله عليه وسلم- وتحداهم أن يأتوا بمثله، لكن شبهاتهم الباطلة توارت حياءً أمام الحق المبين، فكان الاضطهاد.










إشغال الناس






علمت قريش أن اتهام محمد -صلى الله عليه وسلم- بالكذب أو الجنون، ورميه بالكهانة أو السحر لا طائل خلفه، وظنوا بسقيم عقولهم أن الناس إنما يجتمعون حوله لعذوبة حديثه، وجمال منطقه، وتناسوا الحقيقة الناصعة، أنهم يجتمعون حوله لصدق حديثه، وقوة منطقه، إذ حديثه هو قرآن رب العالمين، وتمادى القوم فى غيهم فرأوا أن يصنعوا حديثًا جذابًا كحديث محمد!! وبادر النضر بن الحارث لتنفيذ هذه الخطة العليلة فذهب إلى الحيرة، وتعلم بها حكايات ملوك فارس وأحاديث رستم وإسفنديار، ثم عاد يزاحم النبى -صلى الله عليه وسلم- مجلسه ويقول: والله ما محمد بأحسن حديثًا منى! ثم يتساءل دهشًا: بماذا محمد أحسن حديثًا منى؟ ولأن حديث النضر لا يجذب إلا البلهاء مثله ممن يهوون الأساطير والترهات غناءً عن الحقيقة الناصعة فقد اشترى بعض المغنيات، حتى إذا سمع أن رجلاً قد مال إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- سلطها عليه، تطعمه وتسقيه وتغنى له، حتى لا يبقى له ميل إلى الإسلام!!.










المساومة






لأن عبادة قريش للأصنام تدر عليهم ربحًا وفيرًا، وتنشط تجارتهم، فقد ساوم المشركون محمدًا-صلى الله عليه وسلم-على العقيدة كما يفعلون فى البيع والشراء، محاولين الوصول إلى تسوية ملائمة!! فذهبوا إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- يعرضون عليه أمرًا عجيبًا: أن يعبدوا إلهه عامًا ويعبد آلهتهم عامًا بعده؛ حتى تتراضى جميع الأطراف. وإن قبل المشركون ترك آلهتهم عامًا فإن محمدًا صلى الله عليه وسلم- لم يقبل أن يترك عبادة ربه لحظة واحدة أو ما دون ذلك.














الاضطهاد






فاقد المنطق، عديم الرأى، ماذا يملك حين يعاند الحق سوى أن يمد يده ببطش وتنكيل؟ هذا ما صنعه مشركو مكة بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وصحبه الأبرار، يحاولون مرة بعد مرة أن يقتلوا النبى الكريم، إما بتسليم أبى طالب محمدًا لهم ليقتلوه، وإما بإلقاء صخرة على رأسه الشريف أثناء سجوده كمحاولة أبى جهل الفاشلة، وإما بخنقه بثوب من عنقه كصنيع عدو الله عقبة بن أبى معيط، وإما بمحاولة عمر بن الخطاب التى انتهت بإسلامه، ولئن فشل المشركون فى إزهاق روحه-صلى الله عليه وسلم- فلقد وصل إليه من شرهم الكثير والكثير، بداية من رميه بالحجر كما فعل أبو لهب عند جبل الصفا، ومرورًا بوضع الشوك على بابه وفى طريقه، وبسط اللسان بالإساءة إليه، والافتراء عليه، كما كانت تصنع زوجه أم جميل، ثم ما كان يصنعه جيرانه من إلقاء القاذورات عليه أثناء سجوده، وما كرره عقبة عند الحرم حين ألقى بسلا جزور على ظهره -صلى الله عليه وسلم- وهو ساجد، وما فعله الأخنس بن شريق من تطاول عليه وتبجح، حدث هذا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الشريف فى قومه، الداخل فى حمى أبى طالب سيد بنى هاشم وكبيرها المطاع، فما بالنا بما حدث لصحبه، خصوصًا الضعفاء منهم؟ إن قصص تعذيبهم يندى لها جبين الإنسانية، كما إن صور بطولاتهم ترفع هاماتهم فى عنان السماء، ما سلم أحد منهم من الأذى، بداية من أبى بكر الصديق، ثم عثمان بن عفان، وعمر بن الخطاب، ومصعب بن عمير، وبلال الحبشى، وعمار بن ياسر وأبيه، وأمه، وأبى فكيهة، وخباب بن الأرت. وما اقتصر الأمر على تعذيب الرجال بل إن المرأة التى سبقت إلى الإسلام سرًا كان لها فى الاضطهاد نصيب كبير! فكما كانت خديجة رضى الله عنها أول من أسلم كانت سمية -رحمها الله- أول من استشهد وقصص تعذيب زنيرة، والنهدية، وأم عبيس، وجارية بنى مؤمل، وغيرهن حافلة ومؤلمة، لكن هؤلاء الأبطال البررة قد اختطوا لأنفسهم طريقًا واضحًا، كان عاملاً من عوامل صبرهم وثباتهم لاجتياز تلك المحنة.














الضغط على أبى طالب






إن أبا طالب وقد نشأ محمد -صلى الله عليه وسلم- فى بيته، وكبر أمام عينيه، وشهد من كريم صفاته، وسامى أخلاقه، ما قرت به عينه، يشعر حقيقة أن محمدًا ابنه لا ابن أخيه. إنه نبى، هذه الحقيقة التى تملأ فؤاد أبى طالب، ويفخر بها لسانه، هى نفسها التى نطق بها حين سأله بحيرا الراهب: ما هذا الغلام منك؟ وقد اصطحب محمدًا صبيًا فى رحلته إلى الشام، ولأنه ابنه، ولأنه محمد -صلى الله عليه وسلم- الذى يعرفه جيدًا فقد ناصر أبو طالب محمدًا فى كل موقف، وسانده فى كل ضيق، وسانده حين أقر لابنه على اتباعه، وحين أعلن تأييده يوم دعا الرسول بنى هاشم، وصرح أبو طالب بمناصرة محمد فى أروقة مكة وأنديتها، وما كان جوار أبى طالب -كبير مكة وسيد بنى هاشم- بالجوار الذى يعتدى عليه؛ لذلك رأت قريش أنه لا سبيل إلى محمد إلا عن طريق عمه، فأخذت تمشى إليه مرة بعد مرة، مشت إليه فى بداية جهره فردها ردًَّا رقيقًا، ومشت إليه فى العام السادس للنبوة عارضة أن يبدلوه عمارة بن الوليد بن المغيرة -أنهد فتى فى قريش وأجمله- بمحمد -صلى الله عليه وسلم- ليقتلوه، فتعجب أبو طالب من عرضهم وأجابهم داهشًا: أتعطونى ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابنى تقتلونه؟!. وذهبت إليه قريش مرة ثالثة متهددة متوعدة: تكفه عنا، أو ننازله وإياك فى ذلك، حتى يهلك أحد الفريقين. ولقد تعبت أعصاب أبى طالب واهتزت فى هذه المرة فراجع ابن أخيه قائلاً: ابق على وعلى نفسك، ولا تحملنى من الأمر ما لا أطيق، فأجابه الرسول -صلى الله عليه وسلم- حزينًا: يا عم، والله لو وضعوا الشمس فى يمينى، والقمر فى يسارى على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته، ثم دمعت عيناه ومضى


-صلى الله عليه وسلم-، أما أبو طالب فقد ناداه ثم قال له: اذهب يابن أخى فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشىء أبدًا










المقاومة السلمية






من بين ثلاثمائة صنم يحوطون الكعبة، وآلاف المخمورين الذين يجوبون طرقات مكة، ويطرقون دور البغاء بها صباحًا ومساءً، خرجت الدعوة الخاتمة للعالمين، والدعوة الوليدة تصطدم فى جوهرها بنظم مكة العتيقة، وحياة أهلها، فهل يكتب على المؤمنين بها أن يصطدموا بأهل مكة، والدعوة بعد فى أولى خطواتها؟. لقد نهاهم القرآن أن يسبوا الآلهة الصماء، وامتنعوا هم أن يردوا إلى المشركين إساءاتهم ومكائدهم اللئيمة. إن العربى الذى كان يقيم حربًا لسنوات طويلة ولا يقعدها من أجل أن فرسًا سبقت أخرى دون حق، صار اليوم بعد أن دخل دين الله يعرف كيف يضبط نفسه، ويشكم جماحها، فقد تعلم من نبيه -صلى الله عليه وسلم- الإخلاص، فإلام الثأر والانتقام؟! ألحظ نفسه؟، حاشاه أن يفعل! أما إن كان لله ورسوله ودينه العمل فالخير إذن فى الصبر والاحتمال. كانت هذه الخطة بليغة الأثر فى نفوس أهل مكة ومن حولها، فهم يرون قومًا لا يقولون إلا شهادة الحق، ثم يرون آخرين ثائرى الرأس، معكرى المزاج، يسومونهم خسفًا بعد خسف، ويذيقونهم ظلمًا وعدوانًا، فكان هذا المنظر يهيج النفوس الكريمة؛ لسماع دعوة الحق الطاهرة، النقية الواضحة، التى لم تشوش على نفسها بحرب أو قتال، وتركت المجال فسيحًا لآيات الله فحسب، تبين الحق، وتنير السبيل، وترد على المشركين.














إنقاذ المستضعفين






لم يكن موسرو المسلمين حين يلتقون مع الفقراء والضعفاء منهم يرون أن واجبهم تجاههم هو السلام والتبسم، ثم صالح الدعاء فحسب، بل كانوا يعلمون أن عليهم أن ينقذوا هؤلاء المستضعفين الذين آمنوا بالله ربًا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا ورسولاً، وإن أنفقوا فى سبيل الله مالهم كله، أليسوا هم يعلمون أن أخوة الإسلام تعلو على أخوة النسب؟ ألا ينبغى لهم أن يكونوا أسرة واحدة متكافلة متكاتفة؟. لقد حرر أبو بكر الصديق -رضى الله عنه- وحده ست رقاب، بلال سابعهم، وأجاب أباه حين قال له: يا بنى إنى أراك تعتق رقابًا ضعافًا، فلو أنك إذا فعلت أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون دونك؟! أجابه قائلاً: يا أبت، إنى إنما أريد ما أريد لله عز وجل.














الاستفادة من قوانين الشرك






عاشت الدعوة زمنًا طويلاً فى مجتمع تحكمه قوانينه، والمجتمع المشرك بمكة ما كانت تحكمه إلا قوانين الشرك، وشريعة عباد الأوثان، لكن الدعوة وهى تسعى بين دروب هذا المجتمع، ما كانت تسأل نفسها حين تجد قانونًا من قوانين مكة، من وضع هذا القانون؟، إنما كانت تستبدل به سؤالين: هل يناقض هذا القانون شريعة الإسلام أو أحكامه؟، وهل يفيدنى هذا القانون بشىء. فإن كانت الإجابة الأولى بلا والثانية بنعم، تناولته ومضت تعبِّد به طريقها!. يحق للضعيف أن يدخل فى جوار قوى فلا يهضم حقه أو يمس عرضه أحد قوانين مكة يومئذ، لاقته الدعوة فى طريقها، فوجدته متفقًا مع مبادئها، خادمًا لمصلحتها، فاستفادت به أيما فائدة، محمد -صلى الله عليه وسلم- يجهر بدعوته ليل نهار، وهو فى جوار عمه، فلا يمسه سوء وأبو بكر صاحبه الصديق يخرج من مكة مهاجرًا إلى الحبشة فيلقاه ابن الدغنة سيد قبيلة القارة، فلا يرضى بذلك، بل يقول له: إن مثلك يا أبا بكر لا يخرج ولا يُخرج، إنك تكسب المعدوم، وتحمل الكل، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، فأنا لك جار، ارجع واعبد ربك ببلدك، ويعود أبو بكر إلى مكة فى جوار مشرك يحفظ للكبار أقدارهم.














عدم المساومة على العقيدة






لم يقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قريش المساومة على عقيدته، وكذلك فعل المسلمون، وموقف جعفر بن أبى طالب ممثلاً للمسلمين المهاجرين إلى الحبشة أمام النجاشى ملكها يؤكد ذلك، وقد وردت أخبار عن اضطرار بعض الصحابة أن يقولوا فى الإسلام قولاً مكروهًا تحت وطأة تعذيب لا يتحمله بشر، فهل كان هؤلاء السابقون الأجلاء فى موقف مساومة؟!. كلا، فقد نزل فيهم (..إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان).














المشاركة بين الأديان السماوية






وقف أبو جهل ذات يوم فى نفر من قريش يعترض ركبًا قد همّ بمغادرة مكة قائلاً: خيبكم الله من ركب، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم، وتأتونهم بخبر الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال! ما نعلم ركبًا أحمق منكم. أما الركب فكان وفدًا من نصارى الحبشة، وأما الرجل الذى سعوا فى خبره فقد كان محمدًا -صلى الله عليه وسلم- ذلك النبى الذى جلسوا عنده يسألونه، فتلا عليهم القرآن حتى فاضت أعينهم من الدمع. وقديمًا قبل هذه الوقعة حزن المسلمون لفوز الفرس عباد النار على الروم المسيحيين، حتى ليتراهن أبو بكر وأحد المشركين على نصر الروم على الفرس فى بضع سنين، وكما كان الحال مع النصارى كان مع اليهود، فالمسلمون فى هدنة مع هذين الطرفين، حتى إن مشركى مكة حين عادوا بأسئلة يهود يثرب إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- فأجابهم، شعروا أن كلا الفريقين والمسلمين واليهود فى خندق واحد. والناظر فى ثنايا السيرة يشعر أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وصحبه كانوا يبحثون عن نقاط الالتقاء، ويسعون نحو التقارب، مع من يقابلونه رغم عدم مساومتهم على العقيدة.














تحييد بعض الشخصيات






الكافرون المعاندون ليسوا سواءً!! هكذا كانت القاعدة التى سار عليها محمد -صلى الله عليه وسلم- ومن معه. فأبو جهل الذى يؤذى بقوله وفعله ليس كابن الدغنة الذى يجير أبا بكر حتى يعبد ربه، وابن الدغنة ليس كأبى طالب الذى يجير محمدًا حتى يدعو إلى ربه، وغير هؤلاء جميعًا هناك من لا يؤذى ولا يجير، أو بعبارة أخرى لا يضر ولا ينفع، وهو بغير شك خير ممن يضر ولا ينفع! جلس عتبة بن ربيعة سيد بنى أمية إلى النبى يفاوضه، فما قاطعه الرسول-صلى الله عليه وسلم- ولا استعجله، إنما استمع له بصدر رحب، يعرف كيف يحاور الخصوم، ويحترم آراءهم المخالفة، حتى إذا انتهى عتبة من حديثه، سأله الرسول -صلى الله عليه وسلم- برفق وأدب: أقد فرغت يا أبا الوليد؟، فأجابه عتبة: نعم، فمضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ من سورة فصلت حتى أتى موضع السجدة فسجد، وقام عتبة إلى قريش يقول لهم: خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه. إن عتبة لم يؤمن لكن الرسول-صلى الله عليه وسلم- استطاع بحواره أن يحيده هو وبنى أمية أكبر تجمع عربى بعد بنى مخزوم، وتفتيت صف المشركين نصر كبير ولا شك.














الإصرار على الجهر بالدعوة






منذ أن اعتلت قدما محمد -صلى الله عليه وسلم- جبل الصفا بمكة جاهرًا بدعوته، وحديث الإسلام فى كل بيت، وخبر دعوته فى كل ناد وطريق، اختبأ المسلمون بدار الأرقم أم ظهروا، أعلنوا عن إسلامهم أم أسرّوا، فالدعوة وخبرها هما موضوع الساعة ومحور الحديث. يظن المشركون أن الدعوة مخنوق نورها بمكة، فيجدون أبا ذر الغفارى يطلع عليهم عند الكعبة ليهزأ بآلهتهم وقد آمن، ويعتقد الواهمون منهم أن صوتها قد كبت من الخوف، فيفاجئون بصوت عبدالله بن مسعود يصدح بالقرآن بين ظهرانيهم، ويتمطون يومًا متكاسلين وقد اطمأنوا أن الدعوة حوصرت فى البيوت، فيستيقظون على أقدام المسلمين تدق طرقات مكة فى صفين على أحدهما حمزة وعلى الآخر عمر، وهكذا حرص المسلمون طوال هذه الفترة ألا تنسى دعوتهم ولا يغيب ذكرها، أما مشركو مكة الذين يريدون منع النبى -صلى الله عليه وسلم- من نشر دينه بين القبائل فى موسم الحجيج، فقد قدموا للإسلام خدمة جليلة حين جابوا قبائل الحجيج وبطونهم يحذرونهم من هذا النبى الجديد، لأنهم قد نشروا الخبر بأنفسهم فى الجزيرة بأسرها، حين لم يستطع المسلمون وقتها أن يصنعوا ذلك.














وضوح الطريق






اختط المسلمون ونبيهم محمد -صلى الله عليه وسلم- لأنفسهم طريقًا واضحة المعالم، ذلك أن العاقل ينبغى له أن يفقه سيره، ويعلم ما يسمح له فيه، وما يحظر عليه، حتى لا يقف أمام كل عثرة أو منحنى يعيد حسابات قد انتهى منها، ويكرر تفكيرًا كان منه قد فرغ!.


وتميز هذا الطريق بقواعد عدة منها: المقاومة السلمية، وإنقاذ المستضعفين، والاستفادة من قوانين الشرك، وعدم المساومة على العقيدة، والاستفادة من المشاركة بين الإسلام والديانتين السماويتين: اليهودية والنصرانية، وتحييد بعض الشخصيات المشركة، وطلب المنعة من خارج قريش، والمجاهرة بالدعوة فى كل وقت وكل حين.














تجمع بنى هاشم وبنى المطلب






الأفضل عند المواجهة ألا تكتفى بالرد على خصمك، بل تضع نفسك مكانه، لتتنبأ بما ينوى أن يصنعه، فتبادره قبل أن يسبقك. هكذا تعلم أبو طالب من بيئته الصحراوية المتقلبة، والرجل العاقل الحريص على ابن أخيه استقرأ الأحداث، فوجد قريشًا قد وصلت مع محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى طريق مسدود، ولم يعد أمامها إلا قتل محمد، رضى أبو طالب بعد ذلك أم سخط، ثم إن أحداثًا متعاقبة صارت تؤكد لديه حدسه، فالمشركون هددوه بالمنازلة، وساوموه على قتل ابن أخيه مقابل إعطائهم ابن الوليد له يربيه ويتخذه عوضًا، ثم محاولة أبى جهل رضخ رأس النبى -صلى الله عليه وسلم- بحجر ألقاه، ومحاولة عدو الله عقبة بن أبى معيط خنقه بردائه، وخروج عمر -قبل إسلامه- بسيفه عازمًا ذبح محمد- كل هذه الأحداث تؤكد لأبى طالب أن المشركين لن يأبهوا لجواره وذمته. وهنا لم يبق لأبى طالب إلا المبادرة والحزم، فجمع أهل بيته من بنى هاشم وبنى المطلب ولدى عبد مناف، ودعاهم إلى منع ابن أخيه والقيام دونه، فأجابه إلى ذلك مسلمهم وكافرهم، حمية للجوار العربى، وأدخلوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فى شعبهم، منعًا له ممن أراد قتله، فأسقط فى يدى قريش، ولم يبق أمامها إلا إعلان المقاطعة العامة.














المقاطعة العامة






الصبر فى الشعب






ما أصعب الطريق حين تجتازه أقدامنا العارية، وهى تدب بمثابرة فوق أشواك صلبة! ثم ما أهون الرحلة حين نلقى نظرة عابرة على ذاك الطريق بعد أن تجاوزناه، ذلك كان شعور المسلمين ومن حالفهم من بنى هاشم وبنى المطلب، طيلة سنوات ثلاث قضوها فى شعب أبى طالب. المشركون يمنعون عنهم الزاد والطعام، ويبادرون التجار المارين بمكة فيشترون بضاعتهم بأكثرمن قيمتها، حتى لا يصل منها شىء لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، ويشتد الحصار حتى يسمع من وراء الشعب أصوات النساء والأطفال يتضورون من الجوع، لكن آذان قريش الصماء، وأفئدتهم الغليظة لا تلتفت إليهم، وقد يتحرك رجل منهم كحكيم بن حزام، وحين يرى المحبوسين يأكلون الورق والجلود فاقة، فيحمل قمحًا إلى عمته خديجة -رضى الله عنها-، فيتعرض له أبو جهل، ويتعلق به ليمنعه، ولا يفلته منه إلا أبو البخترى بن هشام وقد هزَّه ما يرى، أما أبو طالب فهو مهتم مع ذلك بأمر آخر، ذلك أنه يعلم أن غاية مراد قريش مما تصنع أن تقتل محمدًا، والرجل الحذر لهذا يحكم حيطته بابن أخيه، فيأمره أن ينام فى فراشه حتى إذا رآه الناس نحَّاه عنه، وأنام مكانه أحد بنيه أو بنى عمه، خشية على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من القتل، وكما أدرك أبو طالب دوره، أدرك المسلمون دورهم، وعلموا أنه لا يقتصر على تحمل الجوع والألم بل يتعداه إلى تبليغ دعوة الله تعالى إلى الناس جميعًا، ولذا فإنهم كانوا يخرجون من شعبهم فى أيام الحج؛ ليلقوا الناس، ويدعوهم إلى الدين الجديد














نقض الصحيفة






لا تعدم الدنيا رجالاً ذوى خلق، يحكمون عقولهم، وإن زاغت أبصارهم عن رؤية الحق فى دين الله! من هؤلاء الرجال هشام بن عمرو من بنى عامر بن لؤى، يشبه فى نعته دعاة الإنسانية، المنتشرين عبر العصور، ومن كافة الأديان، أبت نفس الرجل أن يرى أناسًا يتضورون جوعًا، وأسباب الطعام تلقى فى طرقات مكة لقلة آكليها، فكان يمد بنى هاشم بالطعام ليلاً دون أن يفطن إليه أحد، لكن المقاطعة طالت حتى مر عليها ثلاث سنوات، ففيم الوقوف والانتظار؟. احتال هشام على صحيفة قريش بحكمة ودهاء، فذهب أولاً إلى زهير بن أبى أمية المخزومى -وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب- فأثار حميته: أرضيت أن تطعم الطعام، وتشرب الشراب وأخوالك بحيث تعلم؟، فاحمر وجه زهير وقال له: ويحك فما أصنع وأنا رجل واحد؟، أما والله لو كان معى رجل آخر لقمت فى نقضها! قال: قد وجدت رجلاً، قال: فمن هو؟، قال: أنا، فأجابه زهير: ابغنا رجلاً ثالثًا. وما زال هشام يعمل بحيلته حتى جمع مع زهير ثلاثة رجال غيره: المطعم بن عدى وأبا البخترى بن هشام، وزمعة بن الأسود، فصاروا جميعًا خمسة، وفى الصباح غدا زهير إلى الكعبة، فطاف سبعًا، ثم أقبل على الناس قائلاً: يا أهل مكة، أنأكل الطعام، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، لا يباع ولا يبتاع منهم؟، والله، لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة للرحم الظالمة، فقال أبو جهل غاضبًا: كذبت! والله لا تشق؛ فثار زمعة على أبى جهل ثم أيده أبو البخترى، فالمطعم، فهشام بن عمرو، وهنا بهت أبو جهل ثم قال بمكر: هذا أمر قضى بليل، تشوور فيه بغير هذا المكان. وكان أبو طالب جالسًا فى ناحية من المسجد، فأخبرهم بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الأرضة قد أكلت صحيفتهم حتى لم يبق فيها إلا "باسمك اللهم"، وتحداهم أبو طالب قائلاً: فإن كان كاذبًا خلينا بينكم وبينه، وإن كان صادقًا رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، فأجابوه لذلك، وقام المطعم ليمزق الصحيفة، فوجدها كما قال أبو طالب، فنقضت وعاد بنو هاشم وبنو عبد المطلب إلى مخالطة قريش، التى لم تهزها هذه الآية العجيبة قيد شعرة عن كفرها وعنادها.














كتابة الصحيفة






اجتمع سادة قريش فى خيف بنى كنانة من وادى المحصب، فتحالفوا على بنى هاشم وبنى عبد المطلب، ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم، وألا يقبلوا من بنى هاشم صلحًا أبدًا، ولا تأخذهم بهم رأفة، حتى يسلموه للقتل. ويقال إن منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم هو الذى كتبها، ويقال النضر بن الحارث، والصحيح أنه بغيض بن عامر بن هاشم، وقد دعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على كاتبها، فشلت يده.














دار الأرقم














أسباب اختيار دار الأرقم


كان وراء اختيار دار الأرقم بن أبى الأرقم أسباب عديدة تهدف جميعها إلى حجب المسلمين عن أعين أعدائهم.


أما أول هذه الأسباب، فهو جهل قريش بإسلام الأرقم.


وأما ثانيها: فكون الأرقم من بنى مخزوم، حاملى لواء الحرب والتنافس مع بنى هاشم، فلا يسبق إلى ذهن قريش أن محمدًا يلقى صحبه فى بيت عدوه بمقاييسهم الجاهلية.


وأما ثالثها: فهو أن الأرقم كان فتىً عند إسلامه، فى حدود السادسة عشرة من عمره، فلا يعقل أن يجتمع المسلمون فى بيته، دون بيوت الكبار منهم. ولقد كان احتياط النبى -صلى الله عليه وسلم- وصحبه فى اختيار هذه الدار سببًا لاستتار أمرهم، وعدم انكشاف حركتهم يومئذ.










إشاعة إسلام قريش






بينا سادة وكبراء مكة جالسين حول الحرم فى جمع كبير، فى رمضان من العام الخامس للنبوة، إذ فوجئوا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطلع عليهم، جاهرًا بتلاوة سورة النجم، وأخذ كلام الله المبين بتلابيب عقولهم، فما استطاعوا منه فكاكًا، ووصل النبى إلى قوله تعالى: (فاسجدوا لله واعبدوا) فسجد، وما تمالك المشركون أنفسهم حتى سجدوا معه جميعًا، وقد صدعت الآيات عناد نفوسهم واستكبارها، وهنا ارتبك المشركون مما حدث لهم ولم يدروا ما هم صانعوه، وتخوفوا العتاب واللوم ممن كانوا يتبعونهم أو يعارضونهم، فاحتالوا لذلك حيلة دنيئة، ومكروا مكرهم السيِّئ، وافتروا على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكذب والبهتان، فزعموا أنه قال: تلك الغرانقة العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، بعد أن تلا: (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) يريدون أن يزعموا أنهم ما سجدوا لإله محمد، إنما محمد هو الذى ذكر آلهتهم بخير، وكان من توابع هذه الحادثة العجيبة أنها وصلت إلى مهاجرى الحبشة، لكن فى صورة جديدة، فقد وصل إليهم أن قريشًا قد أسلمت، وسجدت لله رب العالمين، فاستبد بالقوم الفرح، وعزموا على الإياب لمكة، فدخلوها فى شوال من العام نفسه، فسامتهم قريش التعذيب والتنكيل، واحتاطوا ألا يهربوا منهم ثانية، إلا أن تدبير الله أعظم، فقد عاد المهاجرون إلى الحبشة فى هجرة جديدة رغم حيطة قريش وحذرها.














مكيدة قريش










هجرة المسلمين للحبشة للمرة الثانية وبعدد يبلغ خمسة أضعاف العدد الذى هاجر أول مرة، كانت صفعة آلمت صدغ قريش وصكت أسنانها!! وبحركة لا ينهزها إلا الحقد، ولايحدوها إلا ألم الهزيمة، بعثت قريش اثنين من خيرة رجالاتها إلى الحبشة، ليسألا النجاشى أن يرد مهاجري المسلمين إلى مكة ثانية، وبقدر ما كان هذا الطلب شرسًا، بقدر ما كان غريبًا مضحكًا!! أناس كانوا يعبدون ربهم ببلدهم فأبى قومهم أن يعبدوه، فهاجروا إلى أرض بعيدة، يعبدون فيها إلههم، ولا يؤذون بها جارًا أو يعتدون على مواطن، ما المنطق فى أن يستردهم كارهوهم؟ وما الحكمة فى أن يردهم مضيفوهم؟!. تكلم رسولا قريش عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبى ربيعة إلى النجاشى فى رد المسلمين، وصدهما بطارقته، فأبى الرجل العادل أن يفصل فى قضية دون سماع جميع أطرافها، وتحدث جعفر بن أبى طالب عن المسلمين، فوصف ما كان عليه قومه من الجاهلية، وأبان ما أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم- أن يفعلوه من الخير وما أمرهم أن يتركوه من الشر، ووضح كيف اضطهدتهم قريش وسامتهم العذاب، حتى لجئوا إلى أرضه واحتموا ببلاده، وقرأ عليه من سورة مريم، حتى بكى النجاشى ودمعت أعين أساقفته، وهنا أطلق النجاشى حكمه، وفصل فى قضيته قائلاً: إن هذا والذى جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون. فخرج عمرو وصاحبه بخفى حنين لكن عمرو بن العاص داهية العرب لم يستسلم، فكرَّ على النجاشى صبيحة اليوم التالى ليوقع بينه وبين المسلمين قائلاً: أيها الملك إنهم يقولون فى عيسى بن مريم قولاًعظيمًا؛ فاستدعى النجاشى جعفرًا ليسأله فأجابه: نقول فيه الذى جاءنا به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول؛ فصدقه النجاشى على ذلك وأخذ عودًا من الأرض، ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. وأمّن المسلمين على أنفسهم، وردّ على رسولى قريش هداياها، وأعادهما خائبين لمكة


















آخر وفد قريش إلى أبى طالب










أحداث جسيمة مرت بأبى طالب فأثرت فيه، وقد جاوزت سنه الثمانين، وكان آخر هذه الأحداث المقاطعة القاسية، والتى هتفت بالمرض، فألح على الشيخ الكبير يلاحقه، ورأت قريش أن أبا طالب سائر إلى منيته على عجل وخشيت أن تفتك بمحمد -صلى الله عليه وسلم- بعد موته، فتعيرها العرب بجبن صنيعها، إذ تركته حين أحاطه عمه، ثم انتهشته حين ولى عنه، فأجمعت رأيها أن تذهب إليه فتعيد مساومته، حتى تصل مع محمد إلى حل وسط. وبجوار فراش أبى طالب حكمت قريش سيدها الذى حاصرته حتى قريب وأنهكت عافيته- حكمته بينها وبين محمد، فاستدعى أبو طالب ابن أخيه، ليرى رأيه فى قول قريش، فسمع منهم النبى، ثم أجابهم قائلاً: أرأيتم إن أعطيتكم كلمة تكلمتم بها، ملكتم بها العرب، ودانت لكم بها العجم؟. فتعجبوا من قوله وتحيروا، حتى أجابه أبو جهل قائلاً: ما هى؟، وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها!، فقال لهم النبى: تقولون لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه؛ فصفق القوم بأيديهم، ثم قال: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟، إن أمرك لعجب!. ومضوا إلى ديارهم، وقد علموا -من جديد- أنه لا سبيل إلى المساومة مع هذا النبى الثابت على مبادئه


















عام الحزن






وفاة أبى طالب






فى رجب من السنة العاشرة للنبوة، أفل نجم أبى طالب عم النبى، ذلك الرجل الذى كان حصنًا لمحمد -صلى الله عليه وسلم- ودينه الجديد، أبو طالب الذى ربى محمدًا طفلاً فى بيته، وأحاطه وذاد عنه وقد أصبح نبيًا يهتدى به، أبو طالب الذى كانت تهابه قريش وتحترم جواره، ويقدره المسلمون لمنزلته ودوره الذى يؤديه لهم، وأبو طالب الذى سارعت إليه قريش على فراش موته ترجو أن يبقى على دين آبائه، وطمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طيلة حياته أن يهتدى لدين الله- كانت كلماته التى سمعتها آذان قريش تتردد فى مكة: اذهب يا بن أخى فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشىء أبدًا. وكانت كلماته التى نصح بها ابنه عليًا: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه، ثم كانت آخر كلماته وقريش والنبى يحوطانه على فراش موته، ويبادرانه، "على ملة عبد المطلب". وبموت هذا الرجل العظيم انقطع رجاء المسلمين فى إيمانه، وانقطعت أهم قنوات الصلة بين محمد -صلى الله عليه وسلم- وقومه، وانقطع السياج الذى كان يحوط به أبو طالب محمدًا ومن معه.














وفاة خديجة






فى رمضان من العام العاشر للنبوة، فقد النبى، لا بل فقد المسلمون جميعًا راعية بيت النبوة، وشريكة حياة النبى، أول من آمن بدين الله، وأول من نصر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، التى ظلت طيلة حياتها مرفأّ آمنًا تئوب إليه سفينة النبى المجهدة المتعبة، كما كانت أمًا للمؤمنين جميعًا، السيدة خديجة رضى الله عنها وأرضاها، المبشرة ببيت فى الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب














الزواج بسودة -رضى الله عنها-






إن بيت النبوة الذى خلا بوفاة خديجة -رضى الله عنها- فى رمضان، قد عادت عمارته على يدى سودة بنت زمعة فى شوال من العام العاشر للبعثة، ولا شك أن هذا الزواج كان عزاءً للقلبين الداميين قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- المكلوم بوفاة خديجة، وقلب سودة المجروح بوفاة السكران بن عمرو، زوجها السابق، ورفيق إسلامها وهجرتها إلى الحبشة.














مساومة قريش






المساومة وسيلة مباحة! لكن أن تكون على العقيدة، فهذا أمر لا سبيل إليه، وقريش وقد رأت شوكة المسلمين قد قويت، أخفت عداءها داخل صدرها، وجاءت تساوم على عقيدة النبى -صلى الله عليه وسلم- ومن معه، أما ما ساومت به، فكان جمع المال حتى يكون النبى أكثرهم مالاً، وكان الملك والسيادة حتى يكون أكثرهم جاهًا، وكان العلاج إن كان ما أصابه مسًّا من الجان! والحق أن قريشًا بمساومتها تلك قد أعلنت أمرين أولهما: فراغ جعبتها، وضعف عزيمتها بعد تقوية شوكة المسلمين، وثانيهما: أن المال والجاه عندها أنفس من العقيدة وأغلى ثمنـًا إذ ما تصورت حين عرضت بضاعتها، أنها ستئوب بها وقد ردها النبى -صلى الله عليه وسلم- أما محمد فقد وجد نفسه فى وادٍ والقوم فى وادٍ آخر، فأبى أن يساوم أو يساوم، وعاد إلى بيته حزينًا آسفًا.


















الدعوة خارج مكه






دعوة أهل الطائف






بين صفحات الكتب يحتفظ التاريخ بصورة عجيبة، بلغ العجب فيها منتهاه: دار من دور الطائف ضمت ثلاثة من سادتها، قد اتكأوا على أرائكهم، ومدوا أقدامهم الغليظة، وأخذوا يستمعون فى كسل شديد، وينظرون بأنصاف عيون، قد ملأ نفوسهم الكبر، وأخذ البطر بأطراف قلوبهم، جلس هؤلاء النفر يستمعون إلى نبىّ عظيم، خاتم رسل الله للعالمين، بعد رحلة قوامها ستون ميلاً، سارها على قدميه الشريفتين، أما هؤلاء النفر الثلاثة فكانوا: عبد ياليل، ومسعودًا، وحبيبًا، أبناء عمر بن عمير الثقفى، وأما النبى العظيم فكان محمدا-صلى الله عليه وسلم- ولا شك! سمعوا منه الدعوة إلى الإسلام ونصرته، فتمطى أحدهم وقال: امرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وتساءل الثانى مستهزئًا: أما وجد الله أحدًا غيرك؟! وتصنع الطرف الثالث قائلاً: والله لا أكلمك أبدًا، إن كنت رسولاً لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغى أن أكلمك. هكذا كانت إجابتهم للرسول الكريم! ألم تمتلئ بطونهم بالطعام؟، ألم تكس أجسادهم بالحرير؟، ألم تألف جنوبهم لين المضاجع؟، ففيم البحث والعناء عن الآخرة وأهلها؟!. إن النعم التى منحها إياهم ربهم سبحانه وتعالى قد أحالوها حجابًا يستر عنهم يد المنعم وقدرته، قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عنهم قائلاً: إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عنى، ثم جاب دروب الطائف ودورها يدعو أهلها، ولا يدع شريفًا من أشرافهم إلا جاءه وكلمه، فما كان يصله منهم إلا قولهم: اخرج من بلادنا. وجاءت ساعة الخروج، فأغروا به سفهاءهم يسبونه ويصيحون به، وكان الإيذاء فى رحلة العودة














الإيذاء ورحلة العودة






سألت السيدة عائشة -رضى الله عنها- رسول الله ذات مرة: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟، قال: لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة يقصد عند خروجه من الطائف. إن محمدًا صلى الله عليه وسلم- الذى لم يسألهم شيئًا لنفسه أو دنياه، بل سألهم أن يؤمنوا بالله الواحد القهار، ليكون لهم الفلاح فى الدنيا والنجاة والفوز فى الآخرة، لم يلق منهم إلا أشد العداء، وأسوأ التنكيل. تبعه فى خروجه سفهاؤهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، ووقفوا له صفين، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، وكان إذا تعثر قصد إلى الأرض، فيأخذونه بذراعيه، ويقيمونه، فإذا مشى رجموه وهم يضحكون، وزيد بن حارثة يقيه بنفسه، حتى شج فى رأسه شجاجًا. ولجأ النبى الكريم -صلى الله عليه وسلم- إلى بستان لعتبة وشيبة ابنى ربيعة، على ثلاثة أميال من الطائف، فرجع عنه السفهاء، ورق لحاله ابنا ربيعة على كفرهما- فأرسلا غلامًا لهما يدعى عداسًا بقطف من عنب، وكان عداس نصرانيًا، فلما قدمه إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- مد يده قائلاً: بسم الله، ثم أكل، ودار بينهما حديث قصير لم ينته إلا وعداس قد أكب على رأس النبى -صلى الله عليه وسلم- ويديه ورجليه يقبلها وقد أسلم. ومضى النبى حزينًا حتى وصل إلى-قرن المنازل- فبعث الله إليه جبريل -عليه السلام- ومعه ملك الجبال، يستأمره أن يطبق الأخشبين -وهما الجبلان اللذان يحيطان بمكة- على أهلها فأجابه النبى -صلى الله عليه وسلم- قائلا: بل أرجو أن يخرج الله -عز وجل- من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا. وواصل مسيره حتى بلغ وادى نخلة، فبعث الله إليه نفرًا من الجن استمعوا إليه وهو يتلو القرآن، فآمنوا، وولوا إلى قومهم منذرين. حقًا إن أفئدة الطائف ودورها قد أوصدت دون محمد -صلى الله عليه وسلم-، لكن رحلته تلك قد آمن بسببها عداس الزكى، وأقوام من الجن، أما مكة التى طردته، فقد أيده الله بملك الجبال ولكنه أبى الانتقام، وآثر العفو والصفح. إن رحلة العودة وما حدث بها من تأييد وعجائب، قد أذهبت الحزن عن قلب المصطفى، وجعلته يسمو حتى يرى مكة والطائف من علٍ، فلا يشقيه ما يلاقيه فيهما من الصغار.














الدخول فى جوار المطعم






واصل الرسول -صلى الله عليه وسلم- رحلة عودته حتى شارف مكة، وهناك مكث بحراء عشر سنوات طويلة، مرت به منذ أتاه جبريل لأول مرة بهذا الغار، وها هى الأيام تمر، ويعود محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى نفس البقعة المباركة، لكن دعوته اليوم قد تسربت فى دور مكة المعاندة، وكلمات ورقة صارت حقيقة يومًا بعد يوم، والمشاعر التى تزاحم قلبه الزكى الآن لا يستطيع أن يهبط إلى خديجة بمكة مسارعًا ليكاشفها بها؛ لأن خديجة قد ماتت، ومكة قد أخرجته منها. كيف تدخل عليهم وقد أخرجوك؟، هكذا كانت كلمات زيد بن حارثة التى طرقت سمع الرسول -صلى الله عليه وسلم-، لكن النبى -صلى الله عليه وسلم- الواثق من ربه، المتوكل عليه، أجابه بيقين: يا زيد، إن الله جاعل لما ترى فرجًا ومخرجًا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه. وبعث النبى -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من خزاعة إلى الأخنس بن شريق ليجيره فقال: أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو فأجابه: إن بنى عامر لا تجير على بنى كعب! ويبدو أن كلا الرجلين قد أدرك أن الوقوف فى وجه قريش أمر لا تحمد عواقبه، فأرسل محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المطعم بن عدى فقال: نعم، ثم تسلح وألبس بنيه وقومه السلاح، وجعلهم على أركان البيت، ثم اعتلى راحلته، وقد أرسل إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- بالدخول إلى المسجد، وقال مناد: يا معشر قريش، إنى قد أجرت محمدًا فلا يهجه أحد منكم، أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فقد استلم الركن -أى قبله-، ثم صلى ركعتين، وانصرف إلى بيته فى حراسة المطعم وولده. ويبدو أن أبا جهل لم يجد ما يحفظ به ماء وجهه، فذهب إلى المطعم وسأله: أمجير أنت أم متابع؟ أى: مسلم، فقال المطعم: بل مجير، فأجابه أبو جهل: قد أجرنا من أجرت.






















عرض الإسلام على القبائل






















دعوة بنى كلب






أتى النبى -صلى الله عليه وسلم- إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبدالله، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، حتى إنه ليقول لهم: يا بنى عبدالله، إن الله قد أحسن اسم أبيكم. فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم.










دعوة بنى شيبان بن ثعلبة






وقد ذهب إليهم النبى برفقة صديقه أبى بكر، فتحدثا إلى أربعة من أشرافهم حديثًا بدأه أبو بكر، وتحسس فيه قوتهم ومنعتهم، ثم استكمله النبى -صلى الله عليه وسلم- عارضًا دعوته وطلبه للمنعة، فأجابه مغروق بن عامر بقول حسن، لكن ثانيهم: هانئ بن قبيصة رأى عدم العجلة والتروى والنظر فى الأمر، وأجابه ثالثهم المثنى بن حارثة إلى قبوله النصرة مما يلى مياه العرب لا مما يلى أنهار كسرى؛ لأنهم محالفوه، فقال لهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق، فإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه بجميع جوانبه.


























دعوة بنى عامر بن صعصعة






أتاهم النبى -صلى الله عليه وسلم- فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم نفسه، لكن يبدو أنهم كانوا مشغولين بدنياهم، غير عابئين بآخرتهم، فإن أحدهم ويدعى بيحرة بن فراس حدثهم قائلاً: والله، لو أنى أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب، ثم قال للنبى: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟، فأجابه الرسول-صلى الله عليه وسلم-: الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء، فلم يعجب هذا الرد طالب الدنيا فقال له: أفنهدف نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا، لا حاجة لنا بأمرك، وانصرفوا عنه، وما علموا أى خير فقدوه.














عرض الإسلام على الأفراد من خارج مكه






















سويد بن صامت






العاقل الذى يحسن أن يسمع ما أيسر دعوته! هكذا كان سويد الذى سماه قومه الكامل؛ لجلده وشعره وشرفه ونسبه، التقى بمحمد صلى الله عليه وسلم- فى أوائل العام الحادى عشر للبعثة فدعاه، فقال له سويد: لعل الذى معك مثل الذى معى، فسأله النبى صلى الله عليه وسلم-: وما الذى معك؟، فقال سويد: حكمة لقمان، ثم عرضها على النبى -صلى الله عليه وسلم- فقال له: إن هذا الكلام حسن! والذى معى أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى على هو هدى ونور، ثم تلا عليه القرآن، فقال سويد: إن هذا لقول حسن، ثم أسلم، هكذا بمنتهى السهولة واليسر. فحوار كحوار محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعقل لم توصد أبوابه، أو تسد نوافذه كعقل سويد، لا يقف أمامهما شىء، أما سويد فكأن الله قد أدركه فى فرصته الأخيرة، فإنه ما إن عاد إلى المدينة -بلدته- حتى اختطفه الموت قتلاً فى يوم بعاث.














إياس بن معاذ






ما أشقى أولئك البشر الذين يدبون فى الحياة الواسعة، ثم هم لا يرون منها إلا ما وطئته أقدامهم!. إن وفدًا من أوس يثرب قدم على مكة يسأل قريشًا حلفًا يستعين به على قتال بنى العم، لم يدع لنفسه فرصة يستمع فيها لنبى الله وهو يدعوه لما هو خير وأبقى. أما إياس بن معاذ، وقد كان غلامًا حدثًا فى صحبة قومه، فإنه لم يشغله الباطل الذى بين يديه عن الحق الذى تراءى أمام عينيه، وصاح بقومه عند سماعه حديث محمد -صلى الله عليه وسلم-: أى قوم، هذا والله خير مما جئتم له!، لكن أين لصوت الحق أن يجد آذانا تسمعه وسط صخب حديث الحرب؟!، إن جواب الأوس لإياس كان حفنة من التراب ألقيت فى وجهه على يد أحدهم -أبى الحيسر بن رافع- وهو يصيح بالنبى: دعنا عنك، فلعمرى لقد جئنا لغير هذا. وأين ما جاءوا له مما جاءهم به ؟!. وانصرف الوفد قافلاً دون أن يحوز حلف قريش، أما إياس فإنه لم يلبث أن هلك، وكان يهلل، ويكبر، ويحمد، ويسبح عند موته، فلا يشكون أنه مات مسلمًا.














ضماد الأزدى






ما أعجب ما لاقاه محمد -صلى الله عليه وسلم- من قومه! من هذا العجب موقفه حين كان سائرًا فى طريقه، فإذا هو برجل يمنى يعرض عليه بطيبة قلب أن يرقيه حتى يشفى من جنونه. أما هذا اليمنى، فقد كان ضمادًا الأزدى، وكان يرقى من الريح ببلده، وغدا إلى مكة فسمع من أهلها أن محمدًا مجنون، فرأى ببساطة أن يرقيه ليشفى، وما نفى محمد عن نفسه الجنون، وما نهى الرجل عن صنيعه، إنما ابتدره قائلاً: إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادى له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد. وهنا لم يتمالك الأزدى نفسه حتى قال له: أعد على كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ثلاثًا، فقال له ببساطة الحق وروعته: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك تلك، ولقد بلغن قاموس البحر، هات يدك أبايعك على الإسلام، فبايعه. حقًا‍! إن القلب الصادق، والعقل الفطن، لا يحتاجان لكثير جدال حتى يتبين لهما الحق.


















بشرى من يثرب






فى سكون الليل وظلمته، وبينما أوى أهل مكة وحجيج العام الحادى عشر للنبوة إلى فرشهم نائمين، إذ كان هناك فريقان لم يزر النوم عيونهم اليقظة. أما الفريق الأول فستة من شباب الخزرج، ممن ذكرهم موسم الحج بنبوءة جيرانهم وحلفائهم من يهود يثرب، بأن نبيًا من الأنبياء مبعوثًا فى هذا الزمان سيخرج فتتبعه يهود ويقتلون معه العرب قتل عاد وإرم، ثم أقض مضجعهم أيضًا ما تركوه بيثرب من حرب أهلية بينهم وبين بنى عمهم من الأوس، أكلت الأخضر واليابس، وأنهكت قواهم، وذهبت بها؛ فأخذوا يتحدثون فيما بينهم حديثــًا سرى فى هدوء الليل، وتسلل إلى آذان الفريق الثانى: محمد -صلى الله عليه وسلم- النبى الشغوف بدعوته وصاحبيه أبى بكر، وعلى، فقصدوا إلى شباب الخزرج وسألهم النبى: من أنتم؟، قالوا: نفر من الخزرج، فقال: من موالى يهود؟ -أى من حلفائهم-، فقالوا: نعم، فعرض عليهم -صلى الله عليه وسلم- الإسلام ودعاهم إلى الله وحده، وتلا عليهم القرآن فتفجرت ينابيع الحق من قلوبهم النقية، وأنفسهم الظمأى إلى حلاوته، وأسرعوا يقولون لبعضهم البعض: تعلمون والله ياقوم إنه النبى الذى توعدكم به يهود، فلا تسبقنكم إليه. وأسلموا على يديه -صلى الله عليه وسلم- ثم قالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولاقوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعهم الله بك. ورجع هؤلاء المسلمون الجدد إلى بلدهم حاملين رسالة الإسلام، حتى لم تبق دار من دورها إلا وفيها ذكر محمد. وهكذا شاء من جعل سجن يوسف المظلم طريقًا لظهور الحق وعلوِّ الشأن، أن تكون هذه الليلة التى رآها المسلمون مظلمة؛ لضياع قوتهم، وقلة حيلتهم، وانصراف القبائل عن دعوته- أن تكون طريقًا أيضًا لظهور الحق وعلوِّ الشأن، وسبحان من قال: (لا تدرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا).














زواجه-صلى الله عليه وسلم- من عائشة






يبدو أن العام الحادى عشر للبعثة يحمل بشرى جديدة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمع بشرى يثرب التى كانت تقدمة لدولة جديدة للمسلمين بالمدينة، صارت هناك بشرى أخرى، وهى زواجه -صلى الله عليه وسلم- فى شوال من هذه السنة بعائشة الصديقة بنت صاحبه أبى بكر، والتى كانت تقدمة لبداية جديدة لبيت النبوة بالمدينة. فقد بنى بها -صلى الله عليه وسلم- بعد ثلاث سنين فى شوال فى السنة الأولى من الهجرة.














الإسراء و المعراج






فرض الصلوات الخمس






خمسون صلاة فى كل يوم وليلة هى ما فرضها الله -سبحانه وتعالى- على سيد الأنبياء فى رحلة المعراج، لكنه -صلى الله عليه وسلم- حين مر بموسى -عليه السلام- أشار إليه أن يرجع إلى ربه ويسأله التخفيف لأمته، ففعل ووضع عنه ربه عشرًا، ولم يزل محمد -صلى الله عليه وسلم- يتردد بين موسى -عليه السلام- الناصح بالتخفيف وربه تبارك وتعالى، حتى صارت الصلوات خمسًا، وعندها أجاب -صلى الله عليه وسلم- موسى الناصح بمزيد من التخفيف: قد استحييت من ربى، ولكنى أرضى وأسلم، فلما بعد نادى منادٍ: قد أمضيت فريضتى وخففت عن عبادى.














ما رآه محمد -صلى الله عليه وسلم- من الآيات






وجب على الأنبياء حمل ما لم يحمل به غيرهم، ولذا فقد حق لهم أن يصلوا إلى يقين لا يلزم غيرهم، ولأن الخبر ليس كالمعاينة، فقد عاين الأنبياء من الآيات العجيبة ما جعل الدنيا بأسرها تدنو فى أعينهم عن جناح بعوضة، وما جعلهم يستعذبون فى سبيل حمل الرسالة ما يمر عليهم من المحن والعذاب. وفى رحلة المعراج رأى محمد -صلى الله عليه وسلم- من الآيات العجيبة ما ثبت فؤاده، وملأ قلبه يقينًا، ففى السماء الدنيا رأى آدم -عليه السلام-، ورأى أرواح الشهداء عن يمينه وأرواح الأشقياء عن يساره، وفى السماء الثانية رأى عيسى ويحيى -عليهما السلام-، وفى السماء الثالثة رأى يوسف -عليه السلام-، وفى السماء الرابعة رأى إدريس -عليه السلام-، وفى الخامسة رأى هارون -عليه السلام-، ورأى أخاه موسى-عليه السلام- فى السادسة، ولما انتهى إلى السماء السابعة لقى إبراهيم -عليه السلام-، وكان كلما رأى نبيًا سلم عليه ذلك النبى ورحب به، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى الجبار- جل جلاله-، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، وفى هذه الرحلة تكررت له -صلى الله عليه وسلم- حادثة شق الصدر، وعرض عليه اللبن والخمر فاختار اللبن، ورأى أربعة أنهار فى الجنة، نهرين ظاهرين وهما: النيل والفرات، ونهرين باطنين، ورأى مالك خازن النار، كما رأى الجنة والنار، ورأى أكلة مال اليتامى لهم مشافر كمشافر الإبل، يقذفون بقطع من النار فى أفواههم فتخرج من أدبارهم، ورأى أكلة الربا لهم بطون كبيرة لا يقدرون بسببها على الحركة، ويطؤهم آل فرعون حين يعرضون على النار، ورأى الزناة يأكلون اللحم الغث المنتن، ويتركون السمين الطيب إلى جنبه، ورأى النساء اللاتى يدخلن على أزواجهن من ليس من أولادهم معلقات من أثدائهن، وقد قص محمد -صلى الله عليه وسلم- على أهل مكة حين أصبح خبر رحلته فصدقه من شاء الله له أن يصدق، وكذبه من صرف عن رؤية الحق رغم دلائل صدقه التى ساقها لهم النبى





( اضغط واشترك وانزل الاعلان على موقعك واربح على كل زائر )